الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{يُخْرجُ الْحَيَّ منَ الْمَيّت} أي: كالْإنْسَان من النطفة، والطائر من البيضة: {وَيُخْرجُ الْمَيّتَ منَ الْحَيّ} كالنطفة والبيضة من الحيوان: {وَيُحْيي الْأَرْض} أي: بالنبات: {بَعْدَ مَوْتهَا} أي: يبسها: {وَكَذَلك} أي: ومثل ذلك الإخراج: {تُخْرَجُونَ} أي: من قبوركم.وقال المهايمي: أي: بالصلاة عن موت القلب إلى حياته، ومن حياة النفس إلى موتها. ويحيي أرضها بنبات الهيئات الفاضلة، بعد موتها بالهيئات الرديئة. وبالعكس بتركها. وآثر هذا المعنى، على بعده، مراعاة لسياق الآية، ومن طريق الإشارة: {وَمنْ آيَاته} أي: الباهرة الدالة على قدرته على البعث: {أَنْ خَلَقَكُم مّن تُرَابٍ} أي: يعني أصلكم آدم عليه السلام، أو النطفة والمادة، أو على تقدير مضاف؛ أي: ولا مناسبة بين التراب وبين ما أنتم عليه في ذاتكم، وصفاتكم: {ثُمَّ إذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشرُونَ} أي: في الأرض انتشارًا ملأ البسيطة وشمل الكرة، فأخذتم في بناء المدائن والحصون، والسفر في أقطار الأقاليم، وركوب متن البحار، والدوران حول كرة الأرض، وكسب الأموال وجمعها، مع فكرة ودهاء، ومكر وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة، كلٌّ بحسبه.فسبحان من خلقهم وسيرهم، وصرفهم في فنون المعايش وفاوت بينهم في العلوم والمعارف، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة.{وَمنْ آيَاته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسكُمْ} أي: جنسكم: {أَزْوَاجًا لّتَسْكُنُوا إلَيْهَا} أي: تأنسوا بها. فإن المجانسة من دواعي التضام والتعارف: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي: توادًا وتراحمًا بعصمة الزواج، بعد أن لم يكن لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم: {إنَّ في ذَلكَ لَآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: في بدائع هذه الأفاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة.{وَمنْ آيَاته خَلْقُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتلَافُ أَلْسنَتكُمْ وَأَلْوَانكُمْ إنَّ في ذَلكَ لَآيَاتٍ لّلْعَالمينَ} أي: أُولي العلم كما قال: {وَمَا يَعْقلُهَا إلَّا الْعَالمُونَ} [العنكبوت: 43]، {وَمنْ آيَاته مَنَامُكُم باللَّيْل وَالنَّهَار} أي: لاستراحة القوى، ورد ما فقدته: {وَابْتغَاؤُكُم مّن فَضْله} أي: بالسعي في الأسباب، والأخذ في فضل الاكتساب: {إنَّ في ذَلكَ لَآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: سماع تفهم واستبصار: {وَمنْ آيَاته يُريكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا} أي: من الصاعقة: {وَطَمَعًا} أي: في الغيث والرحمة، أو لتخافوا من قهر سلطانه وتطمعوا في عظيم إحسانه: {وَيُنَزّلُ منَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيي به الْأَرْضَ} أي: بالنبات: {بَعْدَ مَوْتهَا} أي: يبسها: {إنَّ في ذَلكَ لَآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقلُونَ وَمنْ آيَاته أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بأَمْره} أي: إرادته لقيامهما. قال أبو السعود: والتعبير عنها بالأمر، للدلالة على كمال القدرة، والغنى عن المبادئ والأسباب، وليس المراد بإقامتهما إنشائهما؛ لأنه قد بين حاله بقوله تعالى: {وَمنْ آيَاته خَلْقُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} [الروم: 22]، ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس، كما قيل؛ فإن ذلك من تتمات إنشائهما، وإن لم يصرح به، تعويلًا على ما ذكر في غير موضع من قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَات بغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان: 10] الآية، بل قيامهما واستمرارهما على ما هما عليه، إلى أجلهما الذي نطق به قوله تعالى فيما قبل: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بالْحَقّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} [الروم: 8]، وحيث كانت هذه الآية متأخرة عن سائر الآيات المعدودة، متصلة بالبعث في الوجود، أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضًا، فقيل: {ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الْأَرْض إذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} فإنه كلام مسوق للإخبار بوقوع البعث ووجوده، بعد انقضاء أجل قيامهما، مترتب على تعداد آياته الدالة عليه، غير منتظم في سلكها كما قيل. كأنه قيل: ومن آياته قيام السماوات والأرض على هيآتهما بأمره تعالى، إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما، ثم إذا دعاكم؛ أي: بعد انقضاء الأجل من الأرض، وأنتم في قبوركم، دعوة واحدة، بأن قال: أيها الموتى! اخرجوا، فاجأتم الخروج منها؟؟، وذلك قوله تعالى: {يَوْمَئذٍ يَتَّبعُونَ الدَّاعيَ} [طه: 108]، انتهى.لطائف:الأولى- الدعاء: إما على حقيقته، أو الكلام تمثيل، شبه سرعة ترقب حصول ذلك، على تعلق إرادته بلا توقف، واحتياج إلى تجشم عمل، بسرعة ترقب إجابة الداعي المطاع على دعائه، أو هو مكنية وتخييلية، بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم يتهيؤون لذلك، وإثبات الدعوة لهم قرينتها.الثانية- قوله تعالى: {منَ الأَرْض} متعلق ب {دَعَا} كقوله: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي، لا ب {تَخْرُجُوْنَ} لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله.الثالثة- قال الكرخي: قال هنا: {إٍذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} وقال في خلق الْإنْسَان: {ثُمَّ إذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشرُونَ} [الروم: 20]، لأنه هناك يكون خلق وتقدير وتدريج، حتى يصير التراب قابلًا للحياة، فنفخ فيه الروح، فإذا هو بشر، وأما في الإعادة فلا يكون تدريج بل يكون بدء وخروج، فلم يقل هنا: ثم. انتهى.{وَلَهُ مَن في السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أي: خلقًا وملكًا وتصرفًا: {كُلٌّ لَّهُ قَانتُونَ} أي: منقادون لتصرفه، لا يتأبون عليه: {وَهُوَ الَّذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ} أي: بعد موتهم. قال أبو السعود: وتكريره لزيادة التقرير، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} أي: من البدء؛ أي: بالقياس إلى من يقتضيه معقول المخاطبين؛ لأن من أعاد منهم صنعة شيء، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة.لطائف:الأولى- تذكير الضمير، مع رجوعه إلى الإعادة، لما أنها مؤولة بأن يعيد.الثانية- قال الزمخشري: فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} وقدمت في قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ} [مريم: 9 و21]؟ قلت: هناك قصد الاختصاص، وهو محزّه. فقيل: {هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ} [مريم: 9 و21]، وإن كان مستصعبًا عندكم أن يولد بين هم وعاقر، وأما ههنا، فلا معنى للاختصاص كيف؟ والأمر مبني على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء. فلو قدمت الصلة، لتغيّر المعنى.قال الناصر: كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر، لا بالحبر، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر.الثالثة- قال الزمخشري: فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله: {ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ} [الروم: 25]، حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره، ثم هونت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة، لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى.قال الناصر: إنما يلقي في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها ب {ثم} إيذانًا بتغاير مرتبتها وعلوّ شأنها. وقوله- في الجواب: إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء، لا يخلص فن الإعادة ذكرت هاهنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره، وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة، فيلزم تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء، ويعود الإشكال، والمخلص، والله أعلم، جعْل: {ثُمَّ} على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب، وإن سلم أنها لتراخي المراتب، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا، وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب، فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع، أرفع درجة من المعطوف عليه، والله أعلم. انتهى.وفي حواشي القاضي: إن: ثم، إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها، أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي الزماني، والمراد عظمه في نفسه، وبالنسبة إلى المعطوف عليه، فلا ينافي قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} وكونه أعظم من قيام السماء والأرض؛ لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات، وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات. فاندفع اعتراض الناصر بأنه، على تسليمه، مرتبةُ المعطوف عليه هنا هي العليا، مع أن كون المعطوف في مثله أرفع درجة، أكثريٌّ لا كلي، كما صرح به الطيبي هنا. فلا امتناع فيما منعه، وهي فائدة نفيسة، ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي كما في شرح الكشاف.وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى في السَّمَاوَات وَالْأَرْض} أي: الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما، كالقدرة العامة والحكمة التامة، وذلك لأنه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل، عقبه بهذا، فكأنه قيل هذا، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة، فكل شيء بدءًا وإعادةً وإيجادًا وإعدامًا، عنده على حد سواء، ولا مثل له ولا ند.وقال الزجاج: المراد بالمثل قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} فاللام فيه للعهد، فحمل المثل على ظاهره، وعلى ما ذكر أولًا، وهو مجاز عن الوصف العجيب، فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل {وَهُوَ الْعَزيزُ} أي: الغالب على أمره، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته: {الْحَكيمُ} الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة.{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا} أي: يتبين به بطلان الشرك: {منْ أَنفُسكُمْ} أي: منتزعًا من أحوالها، وهي أقرب الأمور إليكم وأظهر كشفا: {هَل لَّكُم مّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} أي: من العبيد والإماء: {مّن شُرَكَاء في مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: من الأموال وغيرها: {فَأَنتُمْ فيه سَوَاء} أي: متساوون في التصرف فيما ذكر من غير مزية: {تَخَافُونَهُمْ} أي: تهابون أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم، وهو خبر آخر لأَنْتُمْ {كَخيفَتكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: كما يخاف بعضكم بعضًا من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر، والمعنى نفي مضمون ما فصّل من الجملة الاستفهامية؛ أي: لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم، مماليككم، وهم أمثالكم في البشرية، غير مخلوقين لكم، بل لله تعالى، فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية، التي هي من خصائصه الذاتية، مخلوقه بل مصنوع مخلوقه، حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه؟ أفاده أبو السعود: {كَذَلكَ نُفَصّلُ الْآيَات} أي: مثل ذلك التفصيل الواضح، توضح الآيات: {لقَوْمٍ يَعْقلُونَ بَل اتَّبَعَ الَّذينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بغَيْر علْمٍ} أي: يقين وبرهان: {فَمَن يَهْدي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي: سبب صرف اختياره إلى كسبه؛ أي: لا يقدر على هدايته أحد: {وَمَا لَهُم مّن نَّاصرينَ} أي: ينصرونهم من الله، إذا أراد بهم عذابًا.{فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين} أي: فقوّمه له، واجعله مستقيمًا متوجهًا له. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين، ورعاية حقوقه، وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره، بمن أمر بالنظر إلى أمر، وعقد طرفه به، وتسديد نظره وتوجيه وجهه له، لمراعاته والاهتمام بحفظه: {حَنيفًا} أي: مائلًا عن كل ما سواه إليه. قال المهايمي: ولا يعسر الرجوع إليه لكونه: {فطْرَةَ اللَّه الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي: لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث، ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبدًا. فالقول بتعدده تغيير للفطرة، لكن: {لَا تَبْديلَ لخَلْق اللَّه} أي: لا تغيير لأمر العقل الذي خلقه الله للاستدلال: {ذَلكَ} أي: الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو الفطرة: {الدّينُ الْقَيّمُ} أي: المستقيم الذي لا عوج فيه. قال المهايمي: وإن لم يقم عند المبدلين دليل على استحالة التعدد، فهذا هو مقتضى الفطرة: {وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ} أي: أنه مقتضى الفطرة، وهي أقطع قاطع وأحسم حاسم لشغب المشاغب؛ لأنها من الأمور التي لا تدخل تحت الكسب والاختيار. اهـ.
|